إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، صلى الله، وسلم، وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:
فمرحباً بكم معاشر الإخوان، والأخوات، وأسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يتقبل منا، ومنكم الصيام، والقيام، وأن يعيننا على ذكره، وشكره، وحسن عبادته.
حديثنا في هذه الليلة أيها الأحبة عن أحكام الاعتكاف، وحِكَمه، وغاياته، وآدابه.
حقيقة الاعتكاف:
الاعتكاف يرجع في معناه في كلام العرب إلى معنى واحد، وهو: المقامة، والحبس.
بمعنى أن تقبل على الشيء بحيث لا تنصرف عنه، فهو بمعنى ملازمة الشيء، وحبس النفس عليه، برًّا كان، أو إثماً.
فالله - تبارك، وتعالى - يقول: فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ [الأعراف: 138].
فهؤلاء يعكفون على الإشراك.
وقال - تبارك، وتعالى - في البر: وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة: 187].
فإذًا ملازمة الشيء يقال لها: "اعتكاف" أيًّا كان هذا الذي لازمته، ولكن هل ورد تحديد عن الشارع للاعتكاف، يرتفع به الخلاف في تفاصيل تأتي الإشارة إليها - إن شاء الله تبارك، وتعالى -؟.
في حدود ما أعلم لم يرد عن الشارع تحديد لمعنى الاعتكاف، وإنما يُرجَع في ذلك إلى عرف المخاطبين إن وُجد، فإن لم يوجد رُجع إلى أصل المعنى اللغوي.
فإذا عرفنا أن الاعتكاف بمعنى لزوم الشيء، والإقبال عليه، فيقال: إن الاعتكاف الشرعي هو: لزوم المسجد بنية القربة، بنية التقرب إلى الله - تبارك، وتعالى - لزوماً يصدق عليه في العرف أنه اعتكاف، بمعنى أنه مكث طويل في العرف.
وهذا فيما أظن - والله تعالى أعلم - وسطٌ بين طرفين، بين قول من قال: إن الاعتكاف يكون، ولو بلحظة، كما قال بعض الفقهاء.
وقالوا: لو أنه مر بالمسجد، ونوى الاعتكاف، وهو يمشي فإن ذلك يكون اعتكافاً، وهذا فيه مبالغة - والله تعالى أعلم - ولا يقال لهذا: إنه معتكف، وعاكف على كذا.
وبين قول من قال: إنه لا يكون بحال من الأحوال أقل من يوم، وليلة، فهذا أيضاً ليس فيه دليل - فيما أعلم - واضح يحدده هذا التحديد كما سيأتي.
فكل مكث طويل في العرف يقال له: اعتكاف، إذا جلس بنية الاعتكاف في المسجد، مدة يصدق عليها في العرف أنها طويلة فذلك يكون اعتكافاً.
فلو جاء من بعد صلاة العصر، وجلس حتى صلى المغرب، والعشاء، والتراويح، ثم خرج فهذا مكث طويل في العرف.
لو جاء لصلاة العشاء، وصلى التراويح، ثم جلس، وصلى القيام، ثم خرج فهذا في العرف يقال له: اعتكاف لأنه مدة طويلة عرفاً.
لو جلس من بعد صلاة الفجر إلى الظهر فإن هذه المدة تعد اعتكافاً، لا إشكال في هذا، والعلم عند الله - تبارك، وتعالى -.
الاعتكاف عبادة مشروعة، بمعنى أن الشارع طلبها، وشرعها، والمشروع قدر زائد على المباح، مستوي الطرفين، بمعنى أن الشارع طلبه إما استحباباً، وإما وجوباً.
فالاعتكاف من العبادات المشروعة المستحبة، وهي عبادة قديمة معروفة في الشرائع السابقة، ويدل لذلك قوله - تبارك، وتعالى -: وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة: 125] فهذا تشريع للاعتكاف.
وفي كتاب الله - تبارك، وتعالى - في خطاب هذه الأمة: وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة: 187].
وأما ما يدل على مشروعيته في سنة رسول الله ﷺ فكثير، ومن ذلك ما جاء عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : كان رسول الله ﷺ يعتكف العشر الأواخر من رمضان.
وفي حديث أبي سعيد : إني اعتكفت العشر الأُوَل ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أُتيت، فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف، فليعتكف.
وهذا يعطينا فائدة، وحكمة من حكم الاعتكاف ستأتي الإشارة إلى جملة منها: أن من مطالب المعتكفين التماس ليلة القدر.
فالنبي ﷺ أُمر، وأُخبر أنها في العشر الأواخر، فأخبر أصحابه بذلك، فتُطلب، وتُلتمس بالاعتكاف.
وقد أذن النبي ﷺ أيضاً لأزواجه، لعائشة، وحفصة أن يعتكفا معه، ولهذا يقال: إن الاعتكاف مشروع في حق الرجل، وفي حق المرأة، سواء كانت شابة أم مسنة، على قول الجمهور، ما لم يكن في ذلك مفسدة، من كون المكان غير مأمون، أو فيه نوع مخالطة للرجال، أو فيه نوع تكشف، إذا كان المكان مفتوحاً، يراه الرجال المارة كما في المسجد الحرام.
ولا يصلح أن المرأة تنام، والرجال بين رائح، وغادٍ ينظرون إليها، ولكن ذلك أيضاً في حق المرأة يتوقف على إذن زوجها، كما سيأتي في الكلام على شروطه.
ولم يرد عن الشارع دليل صحيح في فضل الاعتكاف، الأحاديث الواردة في هذا ضعيفة، وليس معنى ذلك أن الاعتكاف لا فضل له، ولكن لم يصح في ذلك حديث معين، ولكن الشارع بين مشروعيته كما في الأدلة السابقة، ولنا أسوة برسول الله ﷺ.